"فتاةُ الشمال"
مجتمعنا الشرقيّ، مجتمعٌ قد اعتادَ اتّباع العادات و التقاليد البالية دونَ محاولةٍ منهم لفهم ما يدورُ خلفها من نوايا سيئة أو حتى كذب و نفاق و فساد ، إضافةً إلى عدمِ تفكيرهم في مدى صحّتها، و من ضمنِ تلكَ الممارساتِ الوحشيّة بحقّ الإنسانية: "جريمةُ الشرف" هي إحدى ما تعلّموه و علّموه متّخذين من ذلك ذريعةً لقتل فردٍ من العائلة مفتخرينَ بأنفسهم، و غالباً ما يكون ذلك الشخص: فتاة.
تُكمِلُ لُبنى حروفها تلك لتوقِفُها دمُوعها عندما تذكّرت مقتَل ابنةِ خالتها على يد العائلة، لُبنى ذات العشرينَ ربيعاً التي لم تشهد جريمةً من قبل، لكنّها شهدت ما هو أسوءَ من ذلك قبلاً، لُبنى التي لطالما كانت معروفةً بمرحها؛ انطفأت بعد مقتلِ قريبتها التي كانت بمثابةِ أختٍ لا بل أكثر.
تلتفتُ إلى شُرفتِها لتجد أمّها و خالتَها يتبادلانِ الهموم، إلى أن يأتي زوجِ خالتها و ينهالُ بِوَابلِ من الشتائم عليهما لأنهما تبكيانِ وئام، مسحَت لُبنى عِبراتها التي ملأت عينيها، و أغلقَت الستائر متّجهةً نحو أوراقها لتُكمل ما بدأت حتى لو كلّفها ذلك موتها، و لكي لا تلفتَ النظرَ إلى حُزنها أو إلى ما تسعى وراءه، رفعَت صوتَ الموسيقا قليلاً و أكملَت:
- وها هيَ "عائلتنا المبجّلة" تقوم بأشنع فعلٍ قد يقدِرُ عليه إنسان، عائلتنا الريفيّة التي بتّ أُدركُ كُرهَهم للفتيات أو النساء، تقوم بقتلِ فلذة كبديَ الصغيرة: وئام، فبالنسبة لهم ما نحنُ سوى عارٍ قد نُسِبَ إليهم، و هم بصفتهم ذكوراً يعتقدون بأنهم أكثُر صُلحاً و أشدّ وعياً، أقصدُ تخلّفاً.
طفلةٌ تُشابهُ القمَر في جمالِها، فتَحت عينيها على وجهِ والدتِها، و أولّ ما نطقت بهِ كان اسم "بابا"، و أوّل شخصٍ قد لعبت معه هو أخوها، دخَلت المدرسَة، و تعلّمت ما هي العائلة، و ما هو معنى أرض و وطن، و أن المنزل هو وطنها الصغير، و فجأة.. نفثَت آخرَ أنفاسها على يدِ أهل منزلها، لقَد أنهى ذلِك الوطنُ الصغير حياتَها، و هي لا تزالُ قاصر، أي لم تبلغ عامَها الثامنَ عشر بعد.
حيث صُدمَت بقرارِ أهلِها القاصرين إنسانيّاً في أفكارهم قبل العُمر بتزويجِها إلى ابن عمّها الذي اعتبرته طوال تلكَ المدّة أخاً، لكنّها صُدِمَت أكثر عندَ معرفتها بإعلامِهم لها دون أخذِ رأيها على مَحمَلِ الجدّ بقولِ والدها:(مش بكيفك، القرار هو قراري و رح تتزوجي ابن عمك غصب عنك)، طبعاً كان ردٌّ كذلك الردّ متوقعاً، فمنذُ متى كانت ابنتُهم إنسانةً من حقّها التكلّم أو اتخاذ القرار، أو حتّى التنفّس دونَ إذنِهم، و بذلِك اكتفى أخُوها بقول: ( اخرسي، بدك تتزوجي ابن عمك)، و في هذهِ اللحظة قُرعَ جرسُ البيت، كانَ الشخصُ الذي يحبّها على الباب مع عائلتِه قادماً لطلبها من عائلتها وفقاً للأصول.
نعم إنها قاصِر، لكن من حقّها أن تتزوج بمن تُحب بدلاً من جعلِها تتزوج بمن لا تريد إرضاءً للناس و العشيرة محاولين ثنيها عن أحلامها و دراستها و مستقبلها.
كانَ أخوها على معرفةٍ بالأمر فالشاب صديقُه و قد بلغَا أشدّهُما سوياً حتى أصبح كلٌّ منهما شاباً يُناهز الواحدَ و العشرين من عُمره، ففتحَ وليد الباب للزوّار و ذهَب كي يُناقشَ والدتَه في الأمر التي سارعت بسؤالِه عن الطّارق، فأجابها:
إنه ذلك الشاب الذي طَلب وئام منّا سابقاً يا أمي.
فالتفتَت إليه مستطردةً بحديثها: يا ولَدي، إن أختكَ إنسانةٌ مثلنا، و من حقّها أن تتكفّل بقرارٍ كقرار الزواج هذا، و تتبَع قلبها كي نراها تعيشُ بسعادة، رب العالمين الذي خلقنا و خلقها هو من وضع ذلك القلب داخلها وهو خير العالِمين.
ليردّ وليد بلهجةٍ قاسية بعض الشيء: (اي وحيات ربها ما بتتزوج غير ابن عمها).
و من ثمّ عاد ليجلس بالقرب من والده دون أن يتفوّه ببنتِ شفة، إلى أن يهمّ والده ببدءِ ما يريد أن يقولَه لوالد الشاب: (نحن مثل ما بتعرفو عنا عاداتنا و عشيرتنا و أعراف المنطقة، و لهالسبب طلبكم مرفوض، الله معكم).
راحَت الأيّام تطوِي آخذةً معها ضحكةَ وئام، حتى أخذَ الحزن و الاختناق ينهشُ قلبها الصغيرَ ذاك، لم تجد ملاذاً سوى بمناجاةِ الله عزّ وجل في صلاتها: ربي.. إني قد عجزتُ عن كلّ شيء، فأعنني على إكمالِ ما سأقدِمُ عليه مُجبرة، والله وليّ التوفيق.
نعم، لقد قررت الهرب مع من تحب لتتزوجه ضمن شرع الله، باحثين عن بقعةٍ من بقاعِ هذه الأرض كي تحتضن حبّهم و تُنسيهم آلامَهم.
و في صبيحةِ اليوم التالي، جاءت صديقةُ وئام المقرّبة: ولّادة، التي كلّفتها وئام بإيصال مكتوبٍ ورقيّ قد كتبته لي، عندما قرأت محتواه كاد عقلي أن يُسلبَ مني.
وئام تهرب من المنزل و العشيرة الليلة!! و عائلتها تجبرها على الزواج!!
•••••••
انتظرت وئام نومَ من في المنزل، و أخذت معها هويّتها الشخصية و خرجت بأقصى سُرعة، قابَلت مُراد بابتسامة يغلب عليها الخوف و التردد، فشدّ على يدها و ذهبا في سبيلهما، ولكن..!
قبل أن يجِدا بقعةَ الأرض التي ستتكفل ببناءِ أحلامهمَا، دُفِن كلٌّ منهُما فيها، بأبشعِ صورِ الإنسانية و أفظعِ صورِ الوحشيّة.
أخذوها إلى مكانٍ مهجور، و ارتكبوا فيها الفعل الشنيع الذي ارتكبَه فرعون بمن عصَى أمرَه؛ قتَلوها.
قاموا بسجنها بلا طعامٍ ولا شراب مع كافّة أنواع التعذيب، و لم يكتفُوا بذلِك بل جاء إحدى عشرَ فرداً من صلةِ الرحم ليُشارِكوا بإزهاقِ روحها البريئة، و قلّدوا جريمتهم تلك!
جعلوا من أقبح ما قد يقوم به إنسانٌ عاقل "مدَعى فخر"، حيث صوّروا فعلتَهم هذه و نشروها على كافّة مواقع التواصل بلا خجلٍ أو حتى شعورهم بتأنيبٍ للضمير.
و في هذه الأحيان كانت ولّادة قد جاءت إليّ كي أساعدها في إنهاءِ فروضِها، حتى سمعنا تكبيراتِ رجال العشيرة خارجاً، فنهض كل من في البيت مسرعاً لمعرفة السبب، لكنني قد شعرت بمصيبة تقترب و قد كان إحساسي ذلك في محلّه!
وقفَ وليد على درجاتِ الشرفة كي يعتلِي عن الآخرين و يُلقي خطابَهُ قائلاً:
عشيرتي، أهل منطقتي، عائلتي و ناسي..، اليوم يومٌ مبارك فقد غسلَت عشيرتنا أولاً و عائلتنا ثانياً وصمةَ العارِ التي قد أوشكت شقيقتي "وئام" أن تُلحِقَها بنا، غسلنا عارنا بكلّ فخرٍ و قتلنا من أراد أن يُلحِقَه بنا.
انهارَت خالتي(والدة وئام) على الأرض باكية ترثي و تعدّد مناقبَ ابنتها الفقيدة، وتصرخُ بحرقةٍ بمقدورِها أن تُشعلَ النار بكل تلك العشيرة و تقول: (إنتو نجّستو الشرف ما حميتوه، إنتو صبيتو جام شركن و سفالتكن على ملاك بيتي، يا حسرة قلبي عليكي يا وئام! ، يا حسرة قلبي عليكي يا يما)، لتأتيها صفعةٌ من زوجها تنسيها ما هي به، فتغيبُ عن وعيها و يقومُ بإدخالها إلى غرفةِ أهلي، ركضت إلى الداخل و عبراتي تهطل من عيوني كسماءِ شتاءٍ كئيب، لم أستطع أن أصرخ بوجه كل هذا الحشد الكبير أو حتى أن أعبر عن حزني.
مرّت سنةٌ على مقتلِ وئام و قلبي ما زال يعتصر ألماً، هبّ كلّ من سمع بالقصة كي ينالَ من أجرموا بحق الإنسانية عقابَهم، و لكن لا حياةَ لمن تُنادِي، ذهبت وئام ك إسراء غريب و غيرهم من الفتيات الذين فقدوا حياتهم ظُلماً.
2020/ شمال سورية/
●لُبنى الفقير.
•••••••••
كاميرون هيروين شابٌ أميريكي، حُكمَ عليه أربعٌ و عشرون عاماً في السجن بسبب انعدام مسؤوليّته و لإهدارِه أرواحاً بريئة عن غير قصد، أما القوانين في بلادِنا العربيّة تُشرّع للمرءِ أن يقتل أيّ فردٍ من عائلتِه بحجّة الشرف، بلا عقابٍ رادعِ أو حتّى محاكمةٍ عادلة، و تستمرّ الجرائم و يتخلى الكثيرون عن إنسانيتهم، و نبقى نحن مجرّد أقامٍ و إحصائيات في مكتبِ دفنِ الموتى.
و إذا نحنُ كبشر إلى الآن لم نفُهم معنى الإنسانية، كيف سنفكّر بمعنى التحرر و الديمقراطية و الوحدة الجغرافية، ما دام ذُكور مجتمعنا يقومون بتسخيرِ الرجولةِ على الإناث و ليس لهم، لا يوجدُ عارٌ في الدنيا كعارِ القتلِ و الظلم و التجبّر على المساكين.
البارحة، ذهبَت إسراء، و اليوم ذهبت وئام، و غداً من الممكن أن تكوني أنتِ أو أيّ فتاةٍ تسعى نحو أحلامها في سنّ الصبا و الشباب.
أنتقِلُ الآن إلى لُبنى التي همّ أفراد عشيرتها لذبحها بعد أن نشرَت قصة جريمتهم في الجرائد الوطنية، لكنّها استطاعت أن تُسافر إلى البعيد، و تنجو برفقةِ والدتها التي دعمَت ما قامت به ابنتها، و التي سيخلّدها التاريخ كمناضلةٍ و خير مدافعٍ عن حقوق المرأة.
و هُنا أنتَ من تقرّر أن تبقَى وحشاً رجعياً كالكثيرين من قبلك، أو أن تكونَ "إنساناً" كصديقَتنا لُبنى.
《 تمّ بعونِ الله بتاريخ: 30/8
0 تعليقات