بقايا الحرب
كنتُ أمشِي خائفاً بين أكوامٍ من الدّمار والدّخان، الأطفال والنّساء تبكي والرجالٌ غارقُون بدمائهم، الموت يحومُ في كلّ مكان والخَوف يجلسُ في الطّرقات ، ترى الطائراتٍ تغطّي السّماء والنيرانَ تأكلُ ما تبقَى من الحياة، لا معالِم للمدينة هنا سوى أكوامٍ من الرّكام، وسكّان المدينة يتشابهون فجميعهم تغطّيهم غشاوةُ الحرب، خوفٌ وذعرُ، رصاصٌ وقتل، وبندقية على جثّة صاحبها رمُيت، هنَا يُقال عنِ الصّمت جنّة، فإن سكتَ المدفع وأُخرِس الصّاروخ سترَى الأطفال تفرح وكأن يومهم عيد، أمسكَت كميرتي وجلتُ في ما تبقَى من المدينة أبحثُ عن أحدٍ أتحدثُ إليه، فعملي كصحفيّاً حتّم عليي التّواجد في أماكنَ خطرةٍ كهذا المكان،
رأيت طفلاً بدا ك ملاك، بعينينِ من لونِ الجنّة وببشرةٍ من الثّلج لَم تستطِع الحرب إخفاءَ نصاعِها يجلسُ على ركام منزلٍ يلعب بالحجارة، اقتربت منه ف بادرتُه بابتسامة وقلت: كيفَ حالك أيها الجميل
نظر ل نفسه وضحكَ بعفويةً وقال : أنا جميل
أجبتهُ بابتسامة: أنتَ جميل جميلٌ جداً، أيمكنّني تصويركَ والتّحدثُ إليك؟
نظرَ للكاميرا في يدي وقال خجلاً: أخاف أن أوسّخها لكَ يا عم
نظرتُ إليه لقد كان الغبار يغطّي ملابسه وبعضُ الدماء تناثَرت على وجهه، يبدو أنّه كان قريباً من آخر قذيفةٍ وقعَت، ف قلتُ له: سيكونَ شرفاً لكميرتي أن تلتقطَ صورةً لك، وأضمرتُ في داخلِي المأساويّة والجمال في صورته، ف صورةٌ كهذه ستلقى شكر مدير التّحرير بالتأكيد،
-أيمكنكَ أن تبتسِم يا صغيري لتبدو الصّورة أجمل؟
=حاضر
-عندما أعد لثلاثة سأسألك بعضَ الأسئلة وأرجو أن تجيبَ عليها
=حاضر
-ثلاثة اثنان واحد، مرحباً يا صغير ما اسمك؟
=اسمي مالك
-كَم عمركَ
=عمري كعمر الحرب سبع سنين
-أينَ تسكن؟
=هنَا
-أين هنا؟
=هنا على بيتِي
أوقفتُ التّسجيل ونظرتُ لمالك مستغرباً وقلت: أتعيش هنا يا مالك؟
هزّ رأسه بعفوية وأجاب: نعم أعيشُ هنا
=كيفَ تنام؟
-على سريري في غرفتي
=ماذا؟
-تعال أقول لكَ يا عم، أمسكَ يدي بلطفٍ وأخذني ل زاويةِ الركام الذي نقف عليه وقال: هنا غرفتي، وهنا بالتّحديد سريري، لقد كان بيتي واقفاً ولكنّه وقع الآن ومازالتُ أنام في مكانِ غرفتي فلقد سمعتُ أبي يقولُ لأمّي يوماً: لن نغادرَ لا بيتنا ولا وطننا لمجرّد أزمةٍ ستعبر،
أحسسّت بقشعريرةٍ تمشي في جسدي، نظرتُ لمالك وقلت: أين أبوكَ الآن؟
-هنا،
=كيف؟
-هنا أبي لم يغادر البيت أبداً
=مالك صغيري، البيتُ ركام كيف لم يغادِره؟
-لقد ماتَ أبي تحت هذا الركام ودفنَ تحتهُ أيضاً
أحسست بصاعقةٍ تضرب عقلي، احتضنتُ مالك بقوّة محاولاً ولو لثانية أن أمدّه بحنانٍ سندٍ يصعبُ تصوري أنّه فقده في هذا العمر الصّغير وهمستُ له ؛ وأمّك أين هيَ؟
-مع أبي، هي وأختي وأخي جميعهم مع أبي
حضنته بقوةٍ أكبر، أحسستُ بدموعي تتدفق، نظرتُ لعيني مالك وسألته: وكيف تعيش دونهم
نظر لي ومسح دمعةً سقطت من عيني سهواً وقال: أعيش هنا بجانبهِم، لماذا تبكي أنت يا عم؟
حاولتُ تمالكَ نفسي وقلتُ: دخل الغبار ل عيني لا أكثر، ما رأيكَ يا مالك أن تأتي وتعيشَ معي؟
هز رأسه نافياً وقال: كيف أتركُ بيتِي لا أستطيع
-الحياةُ عندي جميلة، هناك ألعابٌ وألوان ضحكٍ وغرفةٌ جميلةٌ تنامُ فيها ما رأيك؟
غضب وصرخَ بي: كيفَ تريدنِي أن أتركَ بيتِي؟ اذهب يا عم أنتَ وتلكَ الكاميرا الغبية
ابتسمتُ بلطف وقلت: حسناً لا تغضب أبقَ هنا، ولكن هل يمكننّي أخذُ صورةٍ لك؟
ابتسمَ وقال: بشرطِ أن تكونَ مع أمّي وأخي وأختي وأبي
هززتُ رأسي موافقاً، فركض ل طرفِ البيت حيث هناكَ عددٌ من القبور وجلس بين قبرينِ وهو يقول ؛ لا تخافوا هذا العم سيأخذُ صورةً لنا فقط،ونظرَ لي وابتسم ألتقطُ الصورة وقلبي يرتجفِ على حال هذا الصغير، ما إن التقطتها حتّى جاء إليّ يريدُ رؤيتها، رآها فابتسم ابتسامةً عريضة وقال: أبدو وسيماً أيمكنّني الاحتفاظُ بها ياعم؟
-بالتأكيد،
أخذها وجلسَ بين قبورِ أهله، ابتسمتُ له ومشيت وأنا أعلم أنّني فقدتُ قطعةً من قلبي هنا،
اعتذرتُ من مدير التحرير على عدمِ قيامِي بالمهمة وعدتُ لبيتِي مشتتاً ضائع، صورة ذاك الملاك الصغير لا تفارقُ بالي، أخرجتُ النسخةَ الثانية من الصورة التي أحتفظتُ بها ونظرتُ ل ذاكَ الصغير وابتسمت،
فتحتُ هاتفِي أتصفّح الأخبار
طائرة، قصف، ضحايا، أطفال، مالك
صورةِ مالك مع صورِ الضّحايا، شيءٌ ما قُبضَ في قلبي، لم أشعر سوى بدموعِي تسقطُ على شاشةِ الهاتف، علمتُ وقتها أنّ الحرب، هي أسوء ما قد يتعرّف الإنسانِ يوماً.
0 تعليقات